مقتطف من الورقة البحثية والتنزيل في أسفل المقال خصائص النص الفلسفي:
هل تتحدد خصوصية النص الفلسفي
من خلال مؤلفه "الفيلسوف" ؟ - الذي
لا يسقط ذاته على شخوصه مثل الروائي أو ينسحب كلية وراء الحقائق العلمية
مثل العالم ، بل يتطابق مع فكره ويتحمل مسؤولية خطابه (ألم يتحمل سقراط هذه
المسؤولية إلى حد الموت؟) - هل تعتبر هذه المسؤولية
سمة خاصة بالخطاب الفلسفي؟ أم أنها
سمة يشترك فيها مع خطابات أخرى كالخطاب السياسي أو الديني ؟
تحديد النص الفلسفي، من
خلال مؤلفه ومسؤولية صاحبه، قد لا يكون معيارا دقيقا لتعريفه ، إذ حملت نصوص
فلسفية؛ توقيع أكثر من مؤلف ، فسقراط لم يكتب ولم يتم التعرف على فلسفته، إلا من
خلال تلميذه أفلاطون ، فهل معنى ذلك أن النص،
لا يكون فلسفيا، إلا إذا ما اعتبره التلميذ أو القارئ كذلك؟ لكن وحده
القارئ/ الفيلسوف ، بإمكانه التعرف على
النص الفلسفي، بل إن أي نص آخر( وإن لم
يكن فلسفيا) ، يمكن أن يصبح موضوعا لتفكير وتأمل الفيلسوف ، فكم من قراءة فلسفية
تمت على نصوص أدبية ، مثال ذلك، تعليق هيجل على ديدرو وقراءة هيدجر لقصائد هولدرين،
فنصوص ديدرو وهولدرين، لا تنتمي إلى النصوص الفلسفية، و اهتمام الفلاسفة بها لم يجعلها كذلك. لذا
فقراءة الفيلسوف للنص الفلسفي لا يمكن أن تكون مؤشرا للتمييز بين النص الفلسفي
وغيره ، فالقارئ إذن، لا يمنح للنص سمته الفلسفية .
لا يستمد النص الفلسفي خصائصه، من شروط خارجية، بل من شرط داخلي، وسمة خاصة يتميز بها ، ألا
وهي صفاؤه ونقاؤه وصرامته، لكن هل يوجد نص أو خطاب فلسفي، يتمتع بالصفاء المطلق
والصرامة و لا يسقط في تبسيط أو غموض اللغة العادية؟ لعل هذا ما دفع سقراط إلى رفض الكتابة وجعل أفلاطون يتحفظ منها،
حين قال "كل امرئ جاد يحتاط من تناول الأمور الجدية كتابة وعرض فكره على
العامة"(1). لأن الكتابة قد تضر بصاحبها ، سيما حين يصبح النص المكتوب، عرضة للتأويل والتحريف، و قد حذر
سقراط، من الكتابة، حين سعى إلى
تبليغ فكره الفلسفي، في إطار تعليمي مباشر. لكن رفض الكتابة قد يعني الموت،
وهذا ما جعل أفلاطون يختار الكتابة رغم حذره، حتى تدافع الفلسفة عن نفسها وتبرر
وجودها. ففي الكتابة إنقاذ من النسيان .
لقد
واجه النص الفلسفي، منذ لحظة ظهوره ، تهديدا بخيانة فكر صاحبه وتحويله إلى نص شبيه بنصوص السفسطائي،
الذي ينتج نصا خطابيا يستمد قوته من مهاراته اللغوية والبلاغية ، لكن ينكشف
فراغه و ضعفه ، كلما أعيدت قراءته؛ خلافا لنص الفيلسوف، الذي تظهر قراءته المتكررة ، قوته
وعمقه الفكري ، لأنه يحمل الاعتقاد في قوة الحقيقة، بل إنه يبرهن على متانته وتماسكه رغم مرور الزمن.
وحده الفكر المكتوب، يمكن أن يكون موضوعا للفهم،
لأنه قابل للقراءة عدة مرات، و لذا يعمل النص الفلسفي المكتوب من خلال نسيجه على
الحذر من الوقوع في التناقض. ويمكن القول،
إن أهم خاصية تميز النص الفلسفي، هي
انشغاله بالحقيقة وحدها وحرصه على عدم التناقض .
النصوص الفلسفية، هي تلك
النصوص التي تستمد قوتها، من الحقيقة ذاتها، ليس لأنها تحمل الحقيقة، بل لأن ما يحركها هو
إرادة الحقيقة. فالفلسفة لا تمتلك الحقيقة ، بل تبحث عنها، ولا يمكن رفض عمل جعل
هدفه البحث عن الحقيقة ، فرغم انتقاد
أرسطو لأفلاطون مثلا، لم ينف عن
محاوراته صفة الفلسفة ، في حين سخر من
امبدوكل ولم يعترف به كفيلسوف، للجوئه إلى استعمال الصور، التي رغم ما أضفته على نصه من جمالية في
الأسلوب، (مثلا حين وصف البحر بعرق الأرض) لم تعبر عن انشغاله بالحقيقة. فاستخدام الصور قد يؤدي إلى التباس المعنى أو
إلى الوقوع في التناقض، رغم ما تسمح به
هذه الصور من اقتصاد في القول ومن زخرفة في الكلام. لكن الخطاب الفلسفي، لا يسعى وراء تكثيف
للمعنى، بل هو على العكس من ذلك، يقصد التفكير في الأشياء ويريد الوصول إلى
معانيها ودلالاتها، لذا كان عليه أن يكتب ليأخذ كل الوقت الضروري لذلك.
لا تستمد النصوص الفلسفية سمتها ، مما هو خارج
عنها ؛ لأن الفلسفة معيار ذاتها، كما هي رغبة في المعرفة الكلية، تملك القدرة على الحكم على المعارف الأخرى ونقدها ، لا من حيث شكلها
وأناقة أسلوبها، وإنما من حيث دقة وصرامة استدلالها . لكن إذا كانت الفلسفة قد منحت نفسها حق الحكم
وتقييم نصوص ومعارف أخرى، فقد ألزمت نفسها
بمعايير وقواعد صارمة. و هي تلك التي عبر عنها أفلاطون في فيدر بقوله " ينبغي
أن يكون كل خطاب مثل الكائن الحي له جسد وأن لا يكون دون رأس أو قدمين فقط بل أن
يكون له أيضا وسط وأطراف ، أي تمت كتابتهما بشكل يتناسب مع الكل ".(4)
أن يكون النص ككائن حي،
يعني أن يتسم بالنسقية ،لأنه يريد أن يفكر تفكيرا كليا ، دون الوقوع في التناقض. ومهما
كان الشكل الذي يعبر من خلاله الفيلسوف ( محاورة، مقال، نسق هندسي أكسيوميي، أو
شذرات.... ) فانه ينتمي إلى نسق يوجد في أفق تفكيره.
قد يتم الاعتراض على خاصية النسقية ، بكون الأنساق الفلسفية، قد تم تجاوزها ، لكن لا تعني النسقية الانغلاق في بنية تامة ومكتملة، بل يقصد بها
ذلك الجهد نحو النسقية ، أكثر مما يدل على
النسق بالمعنى المتداول.
إن نسقية النص الفلسفي، التي لا يحققها إلا "كجهد
فكري نحو الشمولية "، يستدعي ما يتممه أي القراءة، لكن ليس من أجل الوقوف
على قصور هذا النص وإنما لإبراز قيمته
وعمقه