يسعد مدونة بيت الحكمة أن تقدم لتلامذتنا وزوارنا الأعزاء دروس مادة الفلسفة
لكل الشعب والمسالك
مجزوءة الوضع البشري
يحيل مفهوم الشخص في اللغة العربية على معنى التشخيص والتمثيل : فالشخص من شخص يشخص أي مثل وقام بدور في فيلم أو مسرحية. نفس هذا المعنى يحيل إليه اللفظ الفرنسي la personne، فهو مشتق من اللفظ اللاتيني personna، الذي يعني القناع الذي يضعه الممثل على وجهه كي يتلاءم مظهره الخارجي مع الدور الذي يقوم به في مسرحية ما إلى جانب ذلك، هناك معنى آخر للشخص مفاده : أن الشخص هو الذات الواعية الحرة والمسؤولة التي يمثلها الإنسان، والإنسان فقط، حيث لا يطلق هذا المفهوم إلا على الكائن البشري دون غيره من الكائنات الحية .
ينطوي مفهوم الشخص إذن على مفارقة مثيرة: فمن حيث إحالته على القناع والتشخيص والمسرح هو مجرد وهم
لا حقيقة له. لكن من حيث إحالته على الذات الإنسانية بما تحمله من وعي وحرية
ومسؤولية فهو معطى واقعي حقيقي ومشخص. فما الشخص إذن ؟ هل هو مجرد قناع ودور،
وتبعا لذلك يكون كل شخص هو في الحقيقة أشخاص عدة بحيث لكل وضعية قناعها الخاص الذي
يمثلها ويتلاءم معها ( أب ،ابن، أستاذ، تلميذ ...)؟ لكن هذا الذي يتقمص هذه
الادوار ويلبس هذه الأقنعة أليس هو الذي نسميه شخصا بالحقيقة ؟ أليس الشخص هو تلك
الماهية الباطنة التي تظل مطابقة لذاتها ومحافظة على هويتها رغم تغير الأعراض التي
تحملها ( لون، وزن، طول، مظهر...) والأدوار التي تؤديها ،وفي هذه الحالة من أين
يستمد الشخص تلك الهوية ؟ أي ما الذي يجعله يبقى هو هو رغم تعرضه لتغيرات كثيرة
ومتنوعة . وإذا كان الإنسان وحده من يقال عنه بأنه شخص، فهذا يعني
أن الشخص يحمل قيمة، أي أن الكائن الإنساني يمتلك قيمة وأهمية في الوجود لا
يمتلكها سواه من الكائنات الحية وهي ما تجعله وحده يسمى شخصا . فمن أين يستمد
الكائن الإنساني هذه القيمة : هل فقط من الوظيفة التي يقوم بها داخل الجماعة البشرية
التي ينتمي إليها، فتكون هذه القيمة تبعا لذلك متفاضلة متباينة تختلف من فرد لآخر؟
أم من قيم ومبادئ يستنبطها كل فرد من الجنس البشري فتكون تبعا لذلك واحدة لدي
الجميع ؟
وأخيرا إذا كان مفهوم الشخص يقترن بذلك الكائن الحر
والمريد الذي هو الإنسان، هل هذا يعني أن هذا الأخير سيد ذاته ؟ بمعنى هل الواحد
منا هو الذي اختار ما هو عليه اليوم، وهو الذي يختار ما سيكون عليه في
المستقبل ؟ أم أن ما نحن عليه الآن وما سنكونه في المستقبل مفروض علينا بحتميات
وشروط خارجة عن نطاق إرادتنا وحرية اختيارنا ؟
المحور الأول : الشخص
و الهوية
يتعرف كل شخص على ذاته ويدركها بوصفها أنـا تميزه عن
غيره وتكسبه هويته وماهيته رغم ما يعتريه من تغيرات، لكن تحديد أساس هوية الشخص
اختلف في شأنه الفلاسفة مما يدفعنا لطرح التساؤلات التالية : ما الأساس الذي تقوم عليه هوية الشخص ؟ وهل هذه الهوية
ثابتة أم متغيرة ؟
لقد تبلور عبر تاريخ الفلسفة موقف وتصور ذو نزعة روحانية
حاول الإجابة من خلاله عن الإشكال السالف مفاده، أن ما يضمن هوية الشخص ومطابقته
لذاته هو جوهر روحاني كامن فيه والذي لا تمثل الطباع سوى أعراض وتمظهرات له. وقد
اتخذ هذا الجوهر عبر تاريخ الفلسفة أسماء متعددة كالنفس، الفكر، الشعور...فعند ابن
سينا مثلا ،اتخذ هذا الجوهر الروحاني اسم النفس، فما يبقى في الفرد هو هو منذ
ولادته وحتى وفاته هو تلك النفس الخاصة به والمزودة بشكل فطري بقوة تسمى لدى هؤلاء
الفلاسفة بالقوة الحافظة أو القوة الذاكرة والتي بمقتضى توفر الفرد عليها يشعر
دوما أنه نفس الشخص مهما كانت التغيرات التي تطرأ على جسمه يقول ابن سينا : " تأمل أيها العاقل أنك اليوم في نفسك هو الذي كان موجودا
جميع عمرك حتى إنك تتذكر كثيرا مما جرى من أحوالك، فأنت إذن ثابت ومستمر لاشك في
ذلك، وبدنك وأجزاؤه ليس ثابتا مستمرا بل هو أبدا في التحلل والانتقاص " .
موقف ديكارت : إن الموقف الديكارتي بخصوص الإشكال السالف الذكر لم يخرج
عن نطاق فلسفته العقلانية المؤمنة ايمانا مطلقا بالعقل والرافضة بالقطع لشهادة
الحواس التي اعتبرها حاجزا يقف أمام المعرفة " ومن الحزم ألا نتق البتة تمام
التقة في الذين خدعونا مرة واحدة
" .
إن وجودي كذات حسب ديكارت رهين بالتفكير ومرتبط به″ وقد
يحصل أنني متى انقطعت عن التفكير تماما، انقطعت عن الوجود بتاتا″. فالتفكير
شرط الوجود وهو أساس هوية الشخص، إذ يعتبر مناسبة لحضور الذات أمام نفسها وإدراكها
إدراكا مباشرا.
إن ديكارت يؤكد على هذه الفكرة من خلال
الكوجيطو" أنا أشك، أنا أفكر، أنا موجود" إذ حاول التماس وجود
الذات / الأنا من شيء آخر أو رد هذا الوجود إلى شيء آخر لن يكون
حسب ديكارت إلا الفكر .
فالإنسان هو الكائن الوحيد القادر على أن " يشك،
ويفهم ويتصور، ويثبت وينفي، ويريد ويتخيل، ويحس أيضا " وهي كلها أفعال نابعة
من التفكير التأملي الذي يميز الكائن الإنساني ، وعليه فأساس وجودي كشخص له هوية
مميزة هو العقل .
موقف ج.لـوك : إن
الشخص بالنسبة للوك هو " كائن مفكر وذكي قادر على الاستدلال والتفكير وعلى
العودة إلى ذاته التي ليست شيئا آخر سوى الشيء الذي يفكر في مختلف الأزمنة
والأمكنة " فما يجعل الشخص يبقى هو نفسه عير مختلف الأزمنة والأمكنة، هو ذلك
الشعور الذي يصاحب مختلف أفعاله وحالاته الشعورية من شم وتذوق وسمع وإحساس
وإرادة...وهذا الشعور لا يقبل الانفصال عن الفكر، بل هو ضروري وأساسي تماما
بالنسبة للفكر، ما دام لا يمكن لأي كائن بشري أن يدرك أو يشم أو يسمع...دون أن
يشعر أنه يدرك أو يشم أو يسمع...وهذا الاقتران الدائم بين الشعور والفكر هو ما
يجعل كل واحد منا هو نفسه، أي هو ما يحدد لكل واحد منا هويته الشخصية ويجعله كائنا
عاقلا يبقى دائما هو هو. لذلك كان في رأي لوك " بقدر ما يمتد شعور الشخص
بعيدا ليصل إلى الأفعال والأفكار الماضية، بقدر ما تمتد هوية ذلك الشخص
وتتسع" وهو ما يعني ترابط قوي بين الوعي والذاكرة، وبين الذاكرة والهوية
الشخصية، فبقدر ما يمتد وعينا إلى الماضي بقدر ما تتسع ذاكرتنا، وبقدر ما تتسع
ذاكرتنا تتسع هويتنا الشخصية كذلك .
موقف لاشوليي : ينطلق لاشوليي في إطار الجواب عن الإشكال السالف من سؤال
مفاده أن الهوية التي ننسبها لأنفسنا، هل تفترض بالضرورة أن فينا عنصرا ثابتا
وحقيقيا ؟
ليؤكد أن الوقائع تفند هذه الفرضية، فالنوم
كمتغير عارض يفصل بين ″ أنانين ″، الأنـا العاقل والأنـا المتخيل الذي
يتبخر عندما يستيقظ الإنسان. كما أن ما تتعرض له ذاكرتنا ) جراء ضربة على الرأس مثلا( يخلق
هوة بين أنـا اليوم وأنـا البارحة، وكذلك بعض المرضى الذين لديهم أنـا أول
وأنـا آخر، فمثل هذه الحالات، أو قل مثل هذه المتغيرات، لها تأثير على عدم ثبات
هوية الشخص.
ولتجاوز هذا الاشكال والحفاظ على ثبات الهوية أي تطابقها
مع ذاتها وتميزها عن غيرها رغم مظاهر التحول والتغير، يجب الحفاظ على الوحدة
النفسية للشخص عبر مراحل حياته.
وهذه الوحدة النفسية المؤسسة لهوية الشخص تقوم على مبدأين : وحدة الطبع أو السمة العامة للشخصية في مواقفها وردود فعلها اتجاه العلاقة مع الآخرين، والذاكرة التي تعد الرابطة بين حاضر الشخص وماضيه القريب والبعيد .
لتنزيل الملخص كاملا بصيغة PDF أنقر أسفله